لا يُمكِنُ لأيّ لبنانيّ مُخلِص لوطنِهِ، مُحِبٌّ له، مُنتمٍ إليه، بما تحمِلُه كلمة انتماء من معنى كيانيّ، إلاّ ويعتبر نفسه معنيًّا بالحراك المدنيّ في بيروت، في الانتفاضة أو الثورة على الفساد المتغلغل في بنية الطبقة السياسيّة، وفي هيكليّة الدولة بأطرها السياسيّة والإداريّة. ليست تلك المطالبة وليدة نفسها ولحظتها في الثاني والعشرين من آب الماضي حتّى تاريخه، ولكنّ لها تاريخًا ما بين هيئات المجتمع المدنيّ والأحزاب السياسيّة والدولة اللبنانيّة. ومن مطلاّت التاريخ مؤتمر دعت إليه وزارة شؤون التنمية الإدارية خلال عهد الوزير السابق آنذاك والنائب الحالي فؤاد السعد سنة 2001، انكب على البحث آنذاك في أطر الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاصّ بحضور خبراء أوروبيين، وبعد البحث المدقق من معظم الخبراء والنقاش فيما بينهم وبين المشاركين ظهر شرط جوهريّ واساسيّ لتوطيد تلك الشراكة وسطوع الدولة في رحابها القضاء على الفساد من شروشه في مختلف قطاعات الدولة بمنهجية إصلاحيّة صافية، بعملية جراحيّة تستأصل الفساد بأدرانه كافّة، وفي الوقت عينه دراسة معايير الخصخصة كما طرحت في ذلك الحين خلال عهد رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري. إذًا الخلاصة الهامّة التي انتهى إليها المؤتمر آنذاك بالتوصيات المقترحة، القضاء على الفساد والقيام بعمليّة إصلاحيّة تتمّ من خلالها تنقية الدولة بقطاعاتها ومؤسساتها.
لم ينضج الحراك على الأرض أو ينفجر بكليّته وبهذا الحجم لو لم يلتبس أو ينغمس بعض كبير من السياسيين المسؤولين بتلك الآفّة المقرفة، وكانت النفايات الحالة الأكثر قرفًا عنوانًا بارزًا بل القنبلة المعدّة لانفجاره. وإذا ساغ الإيغال أو التفسير، فإن صرخة اللبنانيين المشاركين في الحراك بسبب من هذا الملفّ صرخة حقّ لأجل الحقّ العادل، ولا يسوغ على الإطلاق تحويلها إلى مكان آخر أو رؤية أخرى أو هدف آخر. الطامة التي يشكو منها الحراك، أنّه يتدحرج على الأرض من ساحة إلى أخرى في قلب بيروت بلا آفاق واضحة، بلا استراتيجيا محدّدة، وبلا تنسيق بين مكّوناته، فنقف عند مسميّات كثيرة، وكلّ مسمّى يحوي مضمونه الخاصّ به، وتظهر بين الفينة والفينة علامات مشيرة إلى تباعد بين كلّ تلك المسميّات، وهي مكوّنات هذا الحراك. من حقّ الناس أن تسأل عن تشابك الرؤى والعناوين في وحدانيّة الهدف، ومن حقّها أيضًا أن تنتقد المسؤولين عنه بأعطابهم وبخللهم. وقد بدأ المحللون والمتابعون يلمسون هزالاً متراكمًا، وبخاصّة أن أزمة النفايات وهي العنوان الأساسي لا تزال تفتقر إلى الحلّ فيما هم متقوقعون لا يزالون يطالبون باستقالة وزير البيئة محمّد المشنوق، وبعض المصادر رأت أنّ المطالبة بالاستقالة، بحال لو تمّت ستقود إلى المطالبة بتفتيت الحكومة شيئًا فشيئًا من الداخل، فهل قرأ أصحاب الحراك والقيّمون عليه أنّ استقالة الحكومة على الرغم ممّا يعتريها من مساوئ، سترمي لبنان في ظلال فراغ مؤسساتي قاتل؟ السؤال المطروح على هؤلاء، تريدون أكل العنب أو قتل الناطور؟
كلّ اللبنانيين مجمعون على مبدأ الإصلاح والقضاء على الفساد ومحاكمة الفاسدين، ولبنان لن يعود إلى بهائه قبل إتمام هذا المبدأ، في معظم مؤسسات الدولة، ومجالس إدارتها وفي صناديقها. ويعتبر بعضهم من أهل الحراك أنّ بعض الأقلام تهتك ما راموا ورموا إليه بخلفيّات سياسيّة وطائفيّة تتماهى مع نزول بعض من يوالون زعيمًا سياسيًّا للانقضاض على مبدأ الحراك وجوهره فيتم بذلك تعويم السلطة السياسيّة من خلال هذه العمليّة. لكنّ الاعتبار الذي بلغوه يجافي الحقيقة بإطلاقيّتها ولا يناقش الأسباب الموجبة التي حدت ببعض الأقلام إلى النقد. وبرأي بعض المتابعين، إنّ بعض المحرّكين يحاولون الهروب إلى الأمام بعدم مواجهة بعض ما نشر من سير ذاتية، ويهوّلون بمقاضاة من ينشر قضائيًا، في حين أنّ المطلوب من هؤلاء الإجابة على تلك الأسئلة المطروحة من بعض من أرسلت إليهم تلك السير الذاتية، وهي تتكلّم بواقعيّة شديدة. لم يجب هؤلاء على التماهي بينهم وبين بعض الوسائل الإعلاميّة وكيف فجأة فتح الهواء لهم وصاروا مواكبين منهم في الشارع، من أين كلّ هذا التمويل الهائل لهم وللوسائل الإعلاميّة؟ ألا يحق للأقلام وللمواطنين أن يبدوا ملاحظاتهم ويطرحوا الأسئلة وبالتالي ألا يحق لهم انتظار الأجوبة الشافية؟
إنّ القضيّة ليست بالحراك ولا بمشروعيّته وشرعيّته، ليست في انتخاب مجلس نيابيّ على أساس قانون انتخابات قائم على النسبيّة، ليست في انتخاب رئيس للجمهورية مباشرة من الشعب، وتلك رؤى ومطالب جامعة، بل في التوقيت المزدوج بين الطبقة السياسيّة المدانة من هؤلاء بقضيّة النفايات التي انتصبت فجأة وثبتت في الحيز السياسيّ-الاجتماعيّ، وحركّت هؤلاء إلى التوقيت عينه، وكأنّ الإرادة تحريك الأرض اللبنانيّة في مقابل الأرض السوريّة المتجهة إلى التغييرات الجذريّة مع الدخول الروسيّ إلى أرضها بصورة مباشرة. تلك هي القطبة المخفيّة المحجوبة بتلك المطالب وهي ضروريّة.
تبقى مسألة خطيرة ينبغي مناقشتها. يطالب بعض هؤلاء بإسقاط النظام الطائفيّ. هل قاموا بدراسة هذا النظام بالمناهج الواقعيّة والتاريخيّة وفي إطار حضوره السياسيّ الفريد في مشرق مائل بين أكثريّة مسيطرة بالمعنى المذهبيّ وأقليّات مكوّنة بدورها لبلدانه ودور لبنان والنظام الطائفيّ فيه؟ لقد كتب كمال الصليبي عن العقد الاجتماعيّ كأساس نما في النظام السياسيّ اللبنانيّ في بلد مركّب أو مجتمع مركّب، ومن ثمّ تداخلت العوامل فكان الميثاق ثمرة جهود ولّفت بين المسلمين والمسيحيين واعتبر هذا الميثاق بدءًا من دستور 1926 وصولاً إلى الطائف أساس النظام السياسيّ، أي أن الحالة الطائفيّة هي الهيكل العظميّ، هي القلب والدماغ، فما هو البديل المقترح عند هؤلاء إذا ما تمّ إسقاط النظام السياسيّ الناشئ من الطائفية والراسخ عليها؟ لقد نجح بعض الفاعلين في هذا المجتمع بترسيخ قانون للزواج المدنيّ ابتدأ العمل به، ويحتاج إلى تفعيل، غير أنّ هذا غيض من فيض. الكلام الآن على الجوهر وليس على المعايير. هل برأي هؤلاء في ظلّ ازدحام القوى التكفيريّة، وفي وجود أنظمة دينيّة نستطيع نحت نظام علمانيّ وكيف؟
وعلى الرغم من خجل الطبقة السياسيّة بعدما رفع الستر عن عيوب بعضها، وانكشفت عورات الكثيرين منها، وفضحت خطاياها، وهذا يُعَدّ مكسبًا هامًا لجماعة الحراك. الطامة في ذلك العنوان الملتبس... وللتذكير فقط إنّ إسقاط النظام الطائفيّ بالطريقة المنسوبة إلى هؤلاء هو الطريق الأسرع إلى الفوضى العبثيّة... الخطر في الفوضى العبثية على الأرض اللبنانيّة في ظلّ إقليم يقبل على حسم واضح.